ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، عاد إلى الواجهة نمط فريد من السياسات الخارجية الأمريكية، قائم على إعادة تعريف مفاهيم التحالف، والهيمنة، والردع، بعيداً عن الخطاب الليبرالي التقليدي الذي ساد خلال الإدارات الديمقراطية. السياسة التي يتبعها ترامب في الشرق الأوسط، وفي الخليج العربي تحديدًا، ليست وليدة فراغ، بل هي امتداد لمنظومة فكرية تنظر للعالم من زاوية “الربح والخسارة”، وتعامل الحلفاء بمنطق المقاول، لا الحليف الاستراتيجي.
سأقدم في هذه الورقة تحليلاً مركزاً ومركباً لزيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج (السعودية، الإمارات، وقطر) كأول محطة خارجية له في ولايته الثانية، والتي تبدأ في 13 مايو. وهذا الحدث يحمل في طياته دلالات سياسية واقتصادية واستراتيجية كبيرة تستحق الوقوف عندها بعناية.
*أولاً: من الشراكة إلى الاستثمار *
منذ ولايته الأولى، نظر ترامب إلى دول الخليج كمصدر مزدوج: المال والنفوذ الجيوسياسي. فهو يرى في هذه الدول شريكاً لا يملك خياراً سوى شراء الحماية الأمريكية، ودفع ثمن الاستقرار الإقليمي الذي توفره واشنطن.
لكن الجديد في ولايته الثانية هو تبلور هذه الرؤية ضمن إطار أكثر صراحة، حيث أصبحت العلاقة الأمنية/الاقتصادية خاضعة لمعادلة تجارية بحتة: كل دعم سياسي أو أمني أمريكي يقابله عائد اقتصادي واضح. ومن هنا، برزت مفاهيم مثل: الحماية مقابل الدفع”و “السلاح مقابل الولاء”، و “الضغط مقابل الاستثمار”.
*ثانياً: ما الذي يريده ترامب؟*
الجواب الأبسط: المال. والجواب الأعمق: المال والمجد.
قالها صراحة، في أكثر من مناسبة: “نحن نحمي هذه الدول، وهم يجب أن يدفعوا.” من وجهة نظر ترامب، دول الخليج تملك أكثر مما ينبغي، ولا ضير من أن تسهم في دعم “أعظم اقتصاد في التاريخ”، كما يصفه. من هنا، لا يخفي أن زيارته تستهدف مئات المليارات من الدولارات في شكل صفقات سلاح، عقود بنية تحتية، واستثمارات مباشرة في السوق الأمريكية.
السعودية تعهدت باستثمارات تتجاوز 600 مليار دولار وترامب طلب منها ترليون دولار. الإمارات أعلنت عن خطة لاستثمار 1.4 تريليون دولار خلال العقد المقبل. وقطر، بدورها، تتحرك في الاتجاه نفسه، مع رغبة في توسيع استثماراتها في التكنولوجيا، والطاقة، والتعليم.
لكن، هل الأمر مجرد عقود؟ بالطبع لا. فترامب، رجل الأعمال، يرى في هذه الزيارة فرصة ليس فقط لإغراق الشركات الأمريكية بالأرباح، بل لتعزيز صورته كصانع للصفقات، وكقائدٍ يعيد بلاده إلى صدارة المشهد العالمي.
*ثالثاً: وماذا تريد دول الخليج؟*
الجواب هنا معقد، لكنه يدور حول محورين: *الأمن والاقتصاد*.
على الصعيد الأمني، لا تزال دول الخليج تبحث عن مظلة أمريكية تحميها من التهديدات المحيطة: إيران، الفوضى في اليمن، تصدعات العراق وسوريا، وحتى تطلعات تركيا في العمق العربي. اتفاقيات دفاع مشترك، صفقات تسلح ضخمة، وقواعد عسكرية أمريكية ثابتة أو متنقلة، كلها مطروحة على الطاولة.
أما على صعيد الاقتصاد، فالمعادلة تتغير. لم تعد دول الخليج تكتفي بتصدير النفط واستثمار الفائض. الآن، هناك طموحات لتأسيس اقتصادات قائمة على التكنولوجيا المتقدمة: الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، التقنيات النووية المدنية، البنية التحتية الذكية، والعملات الرقمية. وكل ذلك يتطلب ما لا تملكه هذه الدول: التكنولوجيا، والمعرفة، والدعم السياسي من واشنطن.
*رابعاً: السعودية: النووي أولاً*
ربما يكون الطلب السعودي هو الأكثر وضوحاً وإثارة للجدل: دعم أمريكي غير مشروط لتطوير برنامج نووي مدني، دون ربطه بالتطبيع مع إسرائيل. إدارة بايدن كانت قد وضعت “السلام أولاً”، أما إدارة ترامب الثانية، فهي أكثر مرونة… أو أكثر اهتماماً بالمقابل المالي.
الرياض، التي تطالب منذ سنوات بهذا البرنامج، ترى في ترامب فرصة ذهبية. رجل لا يهتم بالشروط السياسية المعقدة، بل يقيس الأمور بحجم العقود وحجم الإنجاز الذي يمكن أن يسوقه لجمهوره في الداخل.
*خامساً: إسرائيل وإيران: بين الصمت والقلق*
إسرائيل وإيران، وكلٌّ منهما يرى في التحركات الأمريكية فرصةً وتحدياً في آنٍ واحد. فإسرائيل، الغارقة في أزمة سياسية داخلية تحت حكومة يمينية متطرفة، تنظر إلى ترامب باعتباره حليفاً موثوقاً يعارض بشدة قيام دولة فلسطينية، لكنها تخشى من أن ينخرط في “صفقة كبرى” مع العرب أو إيران تتجاوز مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
من جهتها، تتابع إيران التطورات بقلق بالغ، خاصة في ظل استمرار سياسة “الضغط الأقصى” التي تعتمدها إدارة ترامب، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والتحالفات الإقليمية مع دول كالسعودية والإمارات وإسرائيل. ورغم خطابه العدائي الظاهري تجاه طهران، إلا أن ترامب لا يسعى – حتى الآن – إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بل يفضل الضغط والتفاوض من موقع قوة، ضمن منطق صفقات لا أيديولوجيات.
ففي حين يُظهر ترامب استعداده للقاء خصومه إذا توفرت شروط “الصفقة المثالية” كما فعل بلقائه التاريخي مع كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية عام 2019 .
وبالتالي، فإن سياسة ترامب في المنطقة لا تسعى إلى حل شامل للنزاعات، بل إلى تثبيت وقائع جديدة تُعيد تعريف الأمن الإقليمي انطلاقاً من مصالح ثلاثية: أمن إسرائيل، احتواء إيران، واستقطاب أموال الخليج. في هذا السياق، لا تُستبعد تسويات تكتيكية، أو حتى تفاهمات جزئية مع طهران، إذا ما حققت مكاسب اقتصادية وجيوسياسية واضحة، دون أن تمس بمكانة إسرائيل أو تفتح الباب مجدداً أمام حل الدولتين.
*سادساً: تفكيك المنظومات الجماعية وتفضيل العلاقات الثنائية*
من سمات استراتيجية ترامب الخارجية تفكيك النماذج الجماعية (مثل مجلس التعاون الخليجي، الجامعة العربية، وحتى حلف الناتو) لصالح العلاقات الثنائية، حيث يمكنه فرض شروط أفضل وخلق تبعية مباشرة.
على سبيل المثال، تعززت العلاقات الأمريكية مع الإمارات والسعودية بشكل فردي، بعيداً عن أي إطار خليجي مشترك. والهدف: تحقيق نفوذ مباشر دون وسطاء، وخلق مساحات تفاوض مرنة تخدم أولويات ترامب دون التزامات جماعية.
*سابعاً: الخليج كمنصة لصفقات كبرى في الطاقة والبنية التحتية*
تتحول المنطقة تدريجياً إلى مسرح للتنافس العالمي على موارد الطاقة الجديدة والتكنولوجيا. ترامب، بعقليته الاقتصادية، يرى في الخليج فرصاً هائلة: مثل خصخصة أرامكو، ومشاريع نيوم، والتحولات في الإمارات نحو الطاقة المتجددة، والاستثمارات السيادية الخليجية في الأسواق الأمريكية.
كلها تمثل محاور اهتمام استراتيجي لإدارته. ومن هنا، لم تعد العلاقة محصورة في السلاح والنفط، بل اتسعت إلى قطاعات مثل التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والنقل الذكي.
*ثامناً: تجاهل الديمقراطية وتوظيف الاستقرار السلطوي*
على عكس الإدارات الديمقراطية، لا يهتم ترامب بسجل حقوق الإنسان أو الحريات السياسية في الدول العربية. بل هو يفضل الأنظمة “المستقرة”، حتى لو كانت سلطوية، لأنها تضمن مصالح واشنطن وتبرم الصفقات بسلاسة.
بالتالي، فإن دعم الولايات المتحدة لدول الخليج في ظل ترامب يأتي خالياً من أي شروط سياسية تتعلق بالإصلاح، أو الحقوق، أو الديمقراطية.
*تاسعاً: المنظور الاستراتيجي بعيد المدى*
رغم ما يبدو من براغماتية مفرطة، إلا أن سياسة ترامب تجاه الخليج تحمل رؤية استراتيجية أبعد من مجرد صفقات مؤقتة. فهو يهدف إلى:
• إعادة تعريف الوجود الأمريكي في المنطقة من الوجود العسكري التقليدي إلى الوجود الاقتصادي والتكنولوجي.
• احتواء الصعود الصيني في الخليج وإفريقيا.
• خلق بنية أمنية إقليمية تقودها واشنطن وتموّلها العواصم الخليجية.
• إحلال نمط جديد من “الاستعمار الناعم” يقوم على السيطرة الاقتصادية والنفوذ المالي بدل الاحتلال أو التدخل العسكري المباشر.
*عاشراً: الخليج في عقل ترامب – بين الفرصة والتبعية*
بعيون ترامب، لا تمثل المنطقة العربية عبئاً، بل فرصة: فرصة لبناء مجد شخصي، وإنجاز اقتصادي، ونفوذ عالمي بأقل تكلفة.
أما الخليج، فبالنسبة له، هو المختبر المثالي لسياسة أمريكية جديدة: لا تقوم على المبادئ ولا على العقائد، بل على منطق بسيط ومباشر: من يدفع أكثر، ينل أكثر.
إنها سياسة صفقات… لكنها، رغم سذاجتها الظاهرة، تحمل ملامح تحوّل عميق في طبيعة الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وربما في طبيعة التحالفات الإقليمية كلها.